تحت الإنشاء
السلم والصلح دراسة لغوية دلالية فقهية
السبت، 9 مايو 2015
الجمعة، 8 مايو 2015
السِّلمُ والصُّلْح دراسة لغوية دلالية
بسم الله الرحمن الرحيم
السِّلمُ والصُّلْح
دراسة لُغويّة دِلاليّة عند المُفسرين
واللُّغويين والفُقهاء
د.
خالد خميس فرّاج.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة
والسلام على رسول الله وبعد؛
فقد تشابه استعمال مصطلحي السِّلمُ
والصُّلْح واضطرب عند كتاب السِّير والمُفسرين، والفقهاء والمحدثين واللغويين، كما
نجد هذا الاضطراب عند كتاب الصحافة والإعلام وفي
المناهج المدرسية والجامعية، حتى لا يكاد الدارس يجد فرقاً ذا دلالة بينهما، لذلك
كان هذا البحث في دلالة هذين اللفظين مُستقصياً دلالتهما في الاستعمال القرآني، وفي
الحديث الصحيح عند البخاري، وعند اللّغويين في المعاجم. وفيما يأتي مناقشة دلالة
كلٍّ منهما ومجال استعمالاتها.
السّلامَ اسمٌ من أسماء اللهِ
الحُسنَى، وهو تحيّةُ المسلمينَ اليومية الأولَى، وتحيةُ أهلِ الجنّة، والسَّلمُ في
الأصل يدلُّ على الصِّحةِ والعافية، نقول: سَلِمَ له الشَّيء؛ أي: خَلصَ فهو سالم
وسليم، وسلّمَهُ اللهُ منَ الآفةِ: وقاهُ إيّاها، وأسْلَمَ: انقادَ
ودَخلَ في دين الإسلام، وأسلم أمْرَه إليه: فَوّضه[1]، والسَِلم:
بفتحِ السّين وكَسرِها بمعنَى الصُّلح، يُذكّرُ ويُؤَنّثُ[2]،
والسِّلْمُ يُذَكّرُ ويُؤنّثُ تأنيثَ نَقيضِها، وهو الحرب؛ قال العباس بن مرداس:
والسِّلم في العربية
المُعاصرة مُذكّر. وسَلَّمَ الجيشُ لعدوّه: أقرَّ له بالغَلَبةِ ... واسْتَسْلَمَ:
انْقادَ[4]. وقد كَثُرُ وُرودُ مادّة (سلم) في
القرآن الكريم؛ إذ تكرّرت في (157) مئةٍ وسَبعٍ وخمسينَ مرّة، في حين لم تَردْ
لفظةُ الحَربِ التي تقابلها في الدّلالة سِوى (6) ستِّ مرّات؛ مِمّا
يؤكّدُ لنا أنَّ دَعوةَ الإسلام تنزعُ وتميل إلى السّلامِ والمَودَّة، والتَّعايشِ
السِّلميّ بينَ الناس[5].
ولتحقيقِ السّلم حَضّ
الإسلامُ على إجابةِ كلِّ مَن دَعا إليه أو طالب به، فقال تعالى:] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ [[ الأنفال: 61]، وتقرير الإسلامِ للسّلمِ هي
قاعدةٌ عامّة في علاقاته الدّولية، لا يتناقضُ مع خَوضِه الجهاد، كضرورةٍ لحمايةِ
الإسلام؛ لأنّ السلامَ يبقَى مُجرّد كلامٍ، وَلنْ تجدَ له أيَّ صدًى، إذا لم تكنْ
له قوّةٌ عاقلةٌ تَدعَمه، وتَستَطيعُ المحافظة عليه، ولذلك دعا الإسلامُ إلى
الإعدادِ والاستعداد فقال: ] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ
مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ [ [الأنفال: 60].
وأمّا السّلامُ الذي يدعو إليهِ
الإسلام فهو ليس سلام مَن يلجأ إليه خوفًا من اندلاع الحروب، أو حفاظًا على
المُكتَسباتِ المادّية والمناصب، أو يأسًا مِن النُّصرة؛ بسببِ ضعفِ الإمكانات
والمقدرات[6]، فالسّلم في مثل هذه الحالة لا يعني سوى
الجبنِ والخَوف، والذلّ والانكِسار والمَهانة، وهو ما لا يقبله الإسلامُ لجندهِ
وعبادِه الصّالحين؛ يقول اللهُ تعالى: ] فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ
الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[ [محمد: 35].
وقد سبقت كلمة (فلا تهنوا)
في الآية السابقة الدَّعوةَ إلى السِّلم في الآية؛ لأنّ سَببَ الدّعوة هو الوَهن
والهوى والضّعف والذلّ، فقد نهت الآيةُ المسلمين عن الأمرين:
الوَهن والدعوة إلى السّلم، وكأنّ الآية تتعجبُ مِن هذه
الدعوةِ، فكيف يهنون ويدعون إلى السّلم، ويستسلمونَ للأعداء مع أنّ اللهَ معهم،
وهم الأعلونَ بإذنِ الله، وهم على حقّ؟[7].
ووردَتْ كلمة (السّلم) في القرآن
الكريم بمعنى الميل للاستسلام مرّة أخرَى في سياقِ القتالِ بينَ المسلمين
والأعداء، وذلك في قوله تعالى: ]وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[ [الأنفال: 61]. ومعنى السّلم هنا: الميل
للاستسلام، وهي تخبرُ عن الكفّار وهزيمتهم أمامَ المسلمين، وخُضوعِهم
واستِسْلامِهم.
وفي هذه الحالةِ يكونونَ قد تركوا
الحلَّ العسكريّ، ومالوا وجنحوا إلى المسالمة وإلى الاستسلام بسبب هزيمتهم، وهنا
يجوزُ للمسلمين الاستجابةُ لجنوحِ الكفّار ومَيلِهم واستسلامهم[8].
وقد
جاءت مادةُ (سَلَمَ) في السّياق القرآنيّ بمعانٍ عَديدةٍ؛ ومنها[9]:
·
الحفظ،
في قوله تعالى: ]وَلَكِنَّ
اللَّهَ سَلَّمَ [[الأنفال:43].
·
التحيّة
( تحيّة الإسلام)، في قوله تعالى: ] خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ
فِيهَا سَلَامٌ [ [إبراهيم:23].
·
الاستسلام
والانقياد، في قوله تعالى:] إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ [ [البقرة:131].
·
الإسلام،
في قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [ [البقرة:207].
·
الإخلاص،
في قوله تعالى: ] فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ
اتَّبَعَنِ [ [العمران:20].
·
الصحّة
والعافية، في قوله تعالى: ] إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [[الشعراء: 89].
·
الصلح، في
قوله تعالى:] وَإِنْ جَنَحُوا للسّلمِ فَاجْنَحْ
لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ [الأنفال:61].
والسّلم في
حقيقته الشرعيةِ لا يبتعدُ عن دلالتِه اللّغوية، ولذا قالوا: هو
تركُ الجهادِ مع الكافرينَ بشروط[10]، والاستسلام: إلقاءُ القيادةِ إلى الآخرين
معَ الاستخذاءِ، والنّزولُ على الحكم وقَبولُ الجزية[11].
وفي الحياة العسكريةِ اليومَ نقول: سَلِمَ
مِن المعركة؛ أيْ: لم يُصَبْ بأذًى، وسَلّمَ: ألقَى السِّلاح، واسْتَسْلَم: ألقَى
السّلاحَ بشروطٍ أو بدونها، والسّلام يعني: التّحيةُ العَسْكَرِيّةُ، والصُّلحُ،
والنَّشيد الوطني، والسّلم: الأسير مِن غيرِ الحَرب[12].
ويميلُ الباحثُ إلى أنّ لفظة
السّلمِ مصطلحٌ إسلاميٌّ عسكريّ؛ لمُلازمتها موضوعات الحرب والجهاد والمعارك، ويرى
كذلك أنَّ اللفظةَ مِن المشتركِ اللفظيّ[13]، ولفظة السّلم في حالة تَقابُلٍ دَلاليّ معَ
لَفظةِ الحَرب.
الصُّلح:
تَسكنُ النفوسُ للصُّلحِ، ويزول به
الخلاف، فالصُّلحُ خيرٌ مُطلق، وهو خيرٌ من الفُرقة والخصومة، ويعودُ الأصلُ
اللّغويّ لمادة (صَلَحَ) إلى ما يدلّ على زَوال الفَساد[14]، وصَلَح يَصْلُحُ صَلاحًا
وصُلوحًا، وصَلَح الشَّيء: كان نافعًا
أو مُناسبًا، وأنشدَ أبو زيد:
واصطَلحَ القومُ: زالَ ما بينهم
مِن خِلافٍ. والصُّلْحُ إنهاءُ الخُصومة، وإنهاءُ حالةِ الحروب، والسلم[16]، والصلح خير من الفساد. وقيل: استقامة
الحالة[17]، وقد قُوبِلَ في التَّنـزيل بالعِنادِ تارَةً،
وبالسَّيئ تارةً أُخرى؛ قال تعالى: ] وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [ [البقرة: 11][18].
وقد غلبَ استعمال الصلح على
المودّة بين الناس وإزالة ما بينهم من الضغائن، والصلح في الفقه نوع من ذلك؛ لأنّ
فيه إزالة خصومة بترك بعض الحق[19].
أما عدد مرات ورود لفظة (صلح)
ومشتقاتها في سائر سور القرآن فقد وردت في (180) مئةٍ وثمانين موضعًا،
وجاءت في معانٍ عدة؛ ومن هذه المعاني
التي وردت:
·
حُسْن
المنزلة، في قوله تعالى:] وَتَكُونُوا مِنْ بَعْده قَوْمًا
صَالِحِينَ[[يوسف: 9].
·
الرّفق، في
قوله تعالى:] سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّالِحِينَ[[القصص: 27].
·
تسوية
الخلق، في قوله تعالى:] لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ [[الأعراف:189].
·
الأمرُ
بالمعروف والنهي عن المنكر، في قوله تعالى:] وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ[[هود: 117].
·
أداء
الأمانة، في قوله تعالى:] وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [[الكهف: 82].
·
الإحسان، في
قوله تعالى:] إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِالله[[هود: 88].
والصُّلْحُ في الاصطِلاحِ الفِقْهِيّ: مُعاقَدَةٌ
يَرتَفعُ بها النّـزاعُ بين الخصوم، ويتوصّل بها إلى الموافقة بين المختلفين، فهو
عَقدٌ وُضِعَ لرَفعِ المنازعةِ بعدَ وُقوعِها بالتّراضي[20].
وقد استخدمت لفظةُ الصُّلحِ في
الحياةِ العَسْكرية؛ لتَدُلَّ على معانٍ مُتعددةٍ؛ يقال: صَلُح الجنديّ: بمعنى أنه
أصبحَ مُدربًا، وزال عنه الفساد، ويقال: أصلِّح السّلْح (السّلاح): أزال عطبه،
وأصلحَ الخُطَّةَ: أكمل نواقصها، والصّلاحيةُ العَسْكريّة: هي مَدى ما يُخَوِّلُه
(يعطيه) القانون العَسْكريّ للعَسْكَريِّ من حقِّ التَّصرُّفِ فيه، ولكلّ أمرٍ
وقائدٍ ومَسؤولٍ عَسكريٍّ صَلاحيةٌ مُعينةٌ، والصُّلحُ: والسّلمُ يعني إنهاء حالةِ
الحَرْب[21].
ويرى الباحثُ أنّ لفظة (صلح)
ومشتقاتها لفظة عسكرية، كما جاء سابقًا، ويرى أنها لا تتساوَى أبدًا مع لَفظةِ
السّلم؛ وذلك لأنّ المقابلَ للفظةِ السّلمِ هو لفظةُ الحَرب، أمّا المقابلُ للصلحِ
فهو الفَساد، وأنّ القرآنَ الكريم أوردَ لفظةَ السّلمِ في المعاركِ بينَ الإسلام
والأعداءِ المُخالفين له: دارًا وفكرًا ومبدأً، في حينَ نجدُ من خِلال استعراضِ
مادةِ (صَلَحَ) أنها لم تردّ في الجانبِ العَسْكريّ المشار إليه سابِقًا، وأمّا ما
وَرَدَتْ فيه فقد كان مِن بابِ الخُصومةِ بينَ طَوائِفَ إسلاميّة، أو جماعاتٍ
مُتفرقةٍ قليلة، وكَثُرَ وُرودُها صفةً، وقد وردت في إصلاحِ النّفسِ والتّوبة،
والدعوة والتوفيق بينَ النّاس والإحسان.
كما يرى الباحثُ كذلك أنَّ
تسميةَ السِّلْمِ بالصُّلْحِ والعكس ليس في مكانِه الصّحيح؛ ولا يَتناسَبُ مع
دِلالَةِ اللَّفظتين في اللُّغةِ والاستِعمالِ القُرآنيّ، أو في الحديثِ النَّبويّ
الصَّحيح [22]، وأنَّ هذا الخطأ في التّسميةِ وَقعَ فيه
كثيرٌ من الباحثينَ والمؤرِخين؛ ومن ذلك تسميةُ ما وقعَ بين المسلمين ومشركي مكةَ
خطأً بالصُّلح، وهو مِنَ السّلم[23].
ويرى الباحثُ أنَّ كثرةَ
ورودِ هذه اللّفظة، فيه دِلالةٌ على أهميّةِ إصلاحِ البيتِ المسلم، والنّفس
المسلمة، والدولة المُسلمة. وما بين كلّ هذه الفئات من علاقات يجبُ أنْ تبقَى
مُتّصِلة مُترابِطَة.
والله تعالى أجلُّ وأعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)